الصحة العامة بين الرسالة و الممارسة

الصحة العامة بين  الرسالة و الممارسة

عندما نذكر اختصاص طب الصحة العامة والطب الوقائي قد يتبادر إلى أذهاننا في المقابل وخصوصا لدى بعض ذوي الاختصاص مصطلح آخر هو الانقسام حيث يأتي بمعنى انشقاق أو انفصال طرفين لاختلاف الرأي أو المعتقد او الأسلوب وحتى الأهداف وهذا ما ظهر جليا بين الطب من جهة والصحة العامة والطب الوقائي من جهة أخرى حتى وقت قريب، فهذا الانقسام ليس بحديث عهد بل إنه قد يتجاوز قرناً من الزمن.
ويعتقد البعض أنه مستمر حتى الآن ولكن بدرجة أقل مما كان عليه في السابق فهو للأسف يطال معظم مدارس وكليات الطب في العالم ولسبب أو لأخر فأن الكثير من العاملين في مجالي الطب والصحة العامة ليسوا على درايه تامه بتلك الحقيقه أو أنهم ينكرونها وفي أحيان أخرى يغضون الطرف عن ذلك الانقسام.

قد لا يبدو الامر بذلك السوء للبعض على ارض الواقع فالمتابع لهذا الشأن قد يلحظ بأن الطب والصحة العامة ظلا متحدين باستمرار خلال القرن التاسع عشر عندما قام الطبيب البريطاني جون سنو بتشخيص وباء الكوليرا باستخدام ادوات التشخيص الوبائي في ذلك الوقت وعندما اكتشف الطبيب الألماني روبرت كوخ العوامل المسببه للأمراض المعدية من خلال علم الأحياء الدقيقة وعندما قام الطبيب الانكليزي إدوارد جينر باكتشاف وتجربة اللقاحات في أواخر القرن التاسع عشر.

كل هؤلاء كانوا أعمدة الطب في عصرهم إلا أن إسهاماتهم السابقه والمتواصله كانت من صميم عمل مجال الصحة العامة والطب الوقائي.
ومع بدايات القرن العشرين وتطور مدارس وكليات الطب في شتى أنحاء العالم ساد قلق بأن لا ترقى تلك الكليات إلى المعايير المتوقعة للبرامج الجامعية في ذلك الوقت.

لذلك بادر ابراهام فليكسنر وهو مثقف أمريكي إلى عقد اجتماع مع الخبراء في أسس ومناهج التعليم العالي وعلى رأسها التعليم الطبي لحل تلك المعضله ومن ثم نشر تقريره الذي يعرف بتقرير فليكسنر والذي يُعد اليوم لدى الكثيرين ركيزه مهمه في أسس التعليم الطبي.

وكان من نتائج هذا التقرير اغلاق ودمج ما يقارب 200 من كليات الطب في الولايات المتحده في حينه للارتقاء بجودة التعليم الطبي إلى المعايير المطلوبة وفي المقابل أدى ذلك إلى تكدّس المناهج والمساقات الطبية بحيث لم يعد هناك مجال لادراج علوم الصحة العامة ضمن تلك الكليات وعندما أدرك الجميع حقيقة الامر اجتمع الخبراء مرة أخرى لمناقشة آلية وأهمية تثقيف افراد المجتمع في الصحة العامة لأن ذلك المجال لم يعد مُدرجاً ضمن المقررات الدراسية في كليات الطب.

وفي عام 1915، نُشر تقرير ويلش روز الشهير والذي كان اللبنة الأولى لإنشاء مدارس وكليات مستقلة في مجال الصحة العامة والطب الوقائي في حرم الجامعات بحيث لا تتبع كليات الطب وفي حينها أصبح ويليام ويلش وهو كاتب هذا التقرير أول عميد لأول مدرسة للصحة العامة في جامعة جون هوبكنز.

بعد ذلك، وعلى مدى نصف قرن من الزمن نشأت العديد من المدارس والكليات للطب وأخرى للصحة العامة في أغلب الجامعات بحيث انفصلت تلك المدارس عن بعضها مما جعل عمداء تلك الكليات لا يتنافسون على جودة الأداء فحسب ولكن أيضا على نُدرة الموارد في الحرم الجامعي وادى ذلك بدوره إلى عدم وضوح أدنى فكرة عن ماهية الصحة العامة فالكل يريد أن يصبح طبيباً وحسب.

و أذكر أنني خلال دراستي وممارستي الطبية في المستشفيات شاهدت العديد من المرضى في أوضاع صحية سيئة وبدرجات متفاوتة حيث رأيت الأطفال المرضى الذين يعانون من العديد من الأمراض الخلقية والوراثية والسرطانية ورأيت المرضى البالغين الذين يعانون من الأمراض السارية والمعدية والمزمنة والحوادث بأنواعها وجميع اختلاطاتها.

 كل ذلك جعلني اتسأل مرارا وتكرارا عن سبب وجود طفل كهذا في ذلك الوضع الصحي أو شخص بالغ في العناية المركزة بسبب حادث سير لأنه لم يرتد حزام الأمان او شخص آخر يعاني من سرطان الرئة أو أمراض القلب الوعائية لأنه أدمن التدخين طيلة حياته مع احتمالية علمه بأضرار التدخين ومجازفته بذلك ولماذا يضطر أي منا أن يقضي آخر أيامه رهين أجهزة التنفس الاصطناعي في حين أنه يستطيع أن يقضي حياته كاملة وبصحة جيدة مع عائلتة في بيته حتى اللحظات الأخيرة.

وللأنصاف والأمانة العلمية فقد وجدت الإجابة على جميع تساؤلاتي في علم الأوبئة والذي يعتبر جوهر علوم طب الصحة العامة والطب الوقائي فهو العلم المختص بالأسباب الحقيقية والكامنة وراء معظم الأمراض التي يتعامل معها الأطباء في المستشفيات وتشخيص أمراض المجتمع بل والوقاية من تلك الأمراض قبل حدوثها في كثير من الأحيان. و مع ذلك قلما تهتم المناهج الدراسية والمساقات العملية والسريرية في بعض مدارس الطب بهذا العلم وغيره من علوم طب الصحة العامة والطب الوقائي.

قضيت جميع سنوات الاختصاص و الممارسة الطبية ولم أتعامل خلالها مع أي مريض على انفراد بل كنت أتعامل مع المرضى كمجموعات في وقت واحد بحيث لم يكن شغلي الشاغل هو الفرد بل المجتمع كاملا ولم أنتظر أن يأتي الأفراد أو المجموعات بعد حدوث الأمراض بأنواعها بل أن الدور الجوهري و الحقيقي لعمل طبيب الصحة العامة و الطب الوقائي هو الوصول لكافة أفراد و شرائح المجتمع قبل حدوث الكثير من الأمراض و الإعاقات و وضع الأسس و البرامج الصحية و الوقائية لها و توعية المجتمع بالاخطار الصحية و طرق الوقاية منها و تشخيصها في حال حدوثها بأحدث و أدق طرق الرصد الوبائي و وسائل التشخيص الصحي بالتعاون مع الاختصاصات الصحية الأخرى و حتى التأهيل الصحي عند حدوث عقابيل و تطور لبعض الحالات المرضية الي درجات تعيق جودة الحياة اليومية لكثير من أفراد المجتمع و ما يترتب على كل ذلك من تراجع في مستويات صحة المجتمعات على الصعيدين الجسدي و النفسي و تأثيره على بطء بل و تراجع عجلة نمو و تطور المجتمعات و الدول على كافة الأصعدة.

و قبل دراستي للطب بحوالي خمسة إلى ستة عقود على نحو تقريبي كانت الكثير من كليات الطب حول العالم قد أدركت أهمية تحويل مناهجها التعليمية ليس إلى مقررات دراسية في مجال العلوم الأساسية و الأحياء و العلوم السريرية بل لتشمل مجال علوم الصحة العامة و في الواقع فإن أكثر هذه الكليات قد غيرت مسمياتها إلى كليات الطب و علوم الصحة العامة أو العلوم الصحية و التي تشتق جل مناهجها الدراسية النظرية و العملية من علوم الصحة العامة. بل إن كلمة الصحة أو صفة الصحية أصبح يستعاض بها عن كلمة الطب أو صفة الطبية في كثير من الأحيان فبات يطلق على الكثير من الهيئات التعليمية في مجال الاختصاصات الطبية بالصحية بدلا عن الطبيه ولعل من أبرزها في العالم العربي المجلس العربي للاختصاصات الصحية و على غرار ذلك المعهد الوطني للتخصصات الصحية في دولة الإمارات و الكثير غيرها.
كما أصبحت كليات الطب اليوم تشمل و تقترن بالصحة العامة ليس في اسمها فحسب بل في دورها أيضا كخط بدئي و أساسي للرعاية الصحية الأولية.
و أما بالنسبة لي فقد أدركت الآن بأنني يمكنني أن أكون طبيبا ناجحا و طبيبا في الصحة العامة في آن واحد.

 

Daftar Situs Ladangtoto Link Gampang Menang Malam ini Slot Gacor Starlight Princess Slot

https://news.asosiasi-emiten.or.id/
https://www.deriheru-navigation.com/
https://stai-barru.ac.id/play/scatter-hitam/
https://blogceta.zaragoza.unam.mx/wp-content/-/buntut77/
https://blogceta.zaragoza.unam.mx/wp-content/app/
https://inlic.org/ojs/scatter-hitam/
scatter hitam
https://www.prosiding.pasca.uniska-kediri.ac.id/tools/sv388/
jurnalprodi.idu.ac.id/public/scatterhitam-1
jurnal.insida.ac.id/tools/sv388
scatter hitam